by Fadi Ghawanmeh
Published on: Sep 24, 2004
Topic:
Type: Short Stories

ما أجملها من ساعات، تلك التي أدركنا خلالها حلاوة أن نكون بين أهلنا و عشيرتنا يداً واحدة، يلتف حولها كل من بالقرية مختالاً فخوراً. و كيف لا يكون لنا ذلك و قد أنجبت قريتنا "دكتورة ولا كل الدكاترة" اقتحمت بإنجازها حقلاً ما اعتادت فتيات القرى المجاورة اقترابه، و سبقت " سحم" بذلك قريناتها، فحق لها أن تزدهي.

" سحم" من أجمل قرى الشمال، عروس يعانق ثراها نهر اليرموك، و يروي سروها و بلوطها حكاية عز صنعه الأجداد. تطل على زيتونها الشمس كل صباح، و تأبى الغروب إلا إذا مسح نسيم المساء العرق عن جبهات فلاحيها السمراء، لتدخل سحم في سكينة لا يحركها إلا صياح ديك الصباح، أن يا قوم قوموا فصلوا، ثم في الأرض انتشروا.

الحكاية بدأتها "أم محمد"، و إن شئت فسمها "السيدة الأولى في عشيرة الغوانمة"، حيث أصرت أن يكون الاحتفال بهيجاً في القرية التي طالماانتظر أهلها هذه الساعة، فهم منذ ست سنوات بدءوا العد التنازلي لهذا اليوم. أخذت "أم محمد" تحضر للحدث الكبير، فساعة تجدها تطوف بيوت القرية داعية للمشاركة، و أخرى تجدها تجمع من الصديقات ثمن الهدية "الغالية" للدكتورة "الاغلى"، حتى إذا هبط الليل و عاد" أبو محمد" الى بيته شارت عليه بما يعينه على النهوض بهذه المناسبة الكبيرة.

و ما أن كان حفل التخريج حتى كانت أم محمد أول الحاضرين، فقد جاءت من "سحم" لتعانق الدكتورة و تبارك لها و لوالديها، بل و لتقود موكباً أو "فاردة" تستقبل الدكتورة و تطوف بها طرقات الفرية ناثرة البهجة فيها. هو موكب ما أظنني رأيت مثله الإ في ذلك اليوم الذي تأهل به فريق قريتنا إلى مصاف الدرجة الأولى.

شرع الديوان أبوابه لكل المهنئيت من كل العشائر، و اجتمعت اليوم كلمة الجميع، فخصوم الأمس بالانتخابات البلدية تراهم اليوم ملتحمين في ديوان واحد، و رجال القرية كلهم اليوم واقفون خلف والد الدكتورة و جدها.

لم يكن المشهد مختلفاً في منزل جد الدكتورة، فالمنزل ضاق على سعته لكثرة المهنئات، مما حذا بـ" أبو محمد" أن يطلب العون من عشيرة "الخزاعلة"، فترسخت وحدة القرية باجتماع الرجال كل الرجال في ديوان عشيرة "الخزاعلة"، و النساء كل النساء في ديوان عشيرة "الغوانمة".

كانت الكنافة لذيذة! فالقطر المتلألئ ينساب على سدر الكنافة موقداً فيه شمساً متوهجة، لا يطفئ لهيبها إلا فستق حلبي أمطر به الصانع الماهر السدر. و اكتمل المشهد بالحركة الاحترافية لمعلم الكنافة، التي حاولت مرارً تقليدها دون جدوى، فتقطيع الكنافة بنلك السرعة فن لا يقل حرفية عن صنع الكنافة ذاتها!

علمتني الكنافة الكثير من الدروس، ليس أولها التعاون بين الشباب عمالاً مأجورين و أقارب مدعويين، ولا آخرها التزام جماعي بنجاح المناسبة، حتى لو اضطر البعض لصنع الكنافة في بيوتهم إذا نفدت مؤونة "معلم الكنافة". بل تعلمت الكثير من وجهاء العشيرة و خصوصاً "أبو محمد" كبير عشيرتنا. أذكر أن رجلاً عاد منهكاً من ديوان النساء بعد أن أتم توزيع الكنافة لهن و لأطفالهن، و أخذ يشكو غياب النظام، و صار يتذمر: "نسوان و نظام لا يجتمعان". فما كان من "أبو محمد" ذي الرداء العربي الناصع و الشماغ الأحمر و الشراشيب تغطي منكبيه العريضين إلا أن ضرب بمحجانته الأرض و صاح به: "ما هكذا يكون الكلام". فأبو محمد ذو السبعين عاماً يدرك عظيم المسؤولية الملقاة على ساكنات الديوان، فالعناية بالأطفال دون العاشرة أكثر صعوبة من اصطحاب صغار الشباب الى ديوان الرجال.

ما اختتلفت الحال في ديوان النساء، عرس قروي عفوي، استهلته زغاريد الترحيب بوصول "الدكتورة رضاب"، و زاد من بهجته تحلق القرويات حول الدكتورة و أمها، و قهقهة الأطفال بوجودهم وسط حشد كبير كانت ضحكاتهم زينته. ما كان الأطفال ليسألوا عن سبب هذه "الهيصة"، فحسبهم اللعب و الكنافة! لكن الأيام تجري مسرعة، وسيأتي يوم يفخررون فيه بمشاركتهم الكبار في تكريم المرأة القروية.


نفد المداد و ما نفدت صحيفتي، فوحدة القرية علت على كل وصف. و القرية شجرة واحدة، راسخة جذور الاجداد في ترابها المبارك، و يانعة أغصاننا في سماءها الصافية... و ما الوطن إلا بسنان كبير.


« return.